الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وقال شيخ الإسلام أَحْمَدُ بن تَيْمية ـ قدسَ اللَّه روحه: بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليما. وقال المؤلف - أيضًا- في حاشية له أخرى على هذه القاعدة -:وقال أبو محمد عبد اللّه بن أحمد الخليدي في كتابه [شرح اعتقاد أهل السنة] لأبي على الحسين بن أحمد الطبري، وهذا لعله ممن أدرك أحمد وغيره، قال الخليدي في معرفة اللّه: وهي أول الفرض الذي لا يسع المسلم جهله، ولا تنفعه الطاعة- وإن أتى بجميع طاعة أهل الدنيا - ما لم تكن معه معرفة وتقوى. فالمسلم إذا نظر في مخلوقات اللّه تعالى وما خلق من عجائبه، مثل دوران الليل والنهار، والشمس والقمر، وتفكر في نفسه، وفي مبدئه ومنتهاه فتزيد معرفته بذلك. قال اللّه تعالى: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه عرف ربه) ولسنا نقول: إن اللّه يعرف بالمخلوقات، بل المخلوقات كلها تعرف باللّه، لكن معرفته تزيد بالنظر في مخلوقات اللّه. وسئل عبد الرحمن بن أبي حاتم عن رجل يقول:عرفت اللّه بالعقل والإلهام فقال:من قال:عرفت اللّه بالعقل والإلهام فهو مبتدع، عرفنا كل شيء باللّه. وسئل ذو النون المصري: بماذا عرفت ربك؟ فقال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي!،وقال عبد اللّه بن رواحه: واللّه لولا اللّه ما اهتدينا ** ولا تصدقنــا ولا صلينــا إلى آخره.وكان هذا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليه، فدل على صحة قول علمائنا: إن اللّه يعرف باللّه، والأشياء كلها تعرف باللّه. هذا آخر كلامه. وهو متعلق بما قد كتبته هنا، وبما كتبته في الجزء الذي بعد هذا في تحرير أصل العلم والإيمان،والفرق بين المنهاج النبوي، والفلسفي، وما كتبته في شرح قصيدة القدر: من أن أصل المعرفة فطري، وذكر الطريقة الكلامية والفلسفية. وقال شيخ الإسلام الأنصاري في أول اعتقاد أهل السنة، وما وقع عليه إجماع أهل الحق من الأمة: أول ما يجب على العبد معرفة اللّه؛ لحديث معاذ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم:(إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة اللّه،فإذا عرفوا اللّه -سبحانه- فأخبرهم أن اللّه افترض عليهم...) الحديث رواه مسلم هكذا. ورواه البخاري. قال: (فاعلم أن معرفة اللّه وعبادته والإيمان به إنما يجب، ويسمع، ويلزم بالبلاغ، ويحصل بالتعريف). قلت: قد روي عن ابن عباس أنه قيل له: بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس، لم يزل دهره في التباس، ظاعنًا في الاعوجاج،زائغًا عن المنهاج،أعرفه بما عرف به نفسه،وأصفه بما وصف به نفسه اهـ." أن أصل العلم الإلهي، ومبدأه، ودليله الأول، عند الذين آمنوا: هو الإيمان باللّه ورسوله، وعند الرسول صلى الله عليه وسلم: هو وحي اللّه إليه، كما قال خاتم الأنبياء: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللْه، وأن محمدا رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها). وقال اللّه تعالى له: وتقرير الحجة في القرآن بالرسل كثير. كقوله ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنن على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم: ابتدؤوها بأصل العلم والإيمان. كما ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله، فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولا، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي. وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي صاحب [المسند] ابتدأ كتابه بدلائل النبوة، وذكر في ذلك طرفًا صالحًا. وهذان الرجلان أفضل بكثير من مسلم، والترمذي ونحوهما، ولهذا كان أحمد بن حنبل يعظم هذين ونحوهما؛ لأنهم فقهاء في الحديث أصولا وفروعا. ولما كان أصل العلم والهدى هو الإيمان بالرسالة المتضمنة للكتاب والحكمة، كان ذكره طريق الهداية بالرسالة ـ التي هي القرآن، وما جاءت به الرسل ـ كثيرًا جدًا، كقوله: فيعلم أن آيات اللّه والرسول تمنع الكفر، وهذا كثير.وكذلك ذكره حصول الهداية،والفلاح للمؤمنين دون غيرهم ملء القرآن،كقوله: فحكم على النوع كله، والأمة الإنسانية جميعها، بالخسارة، والسفول إلى الغاية، إلا المؤمنين الصالحين. وكذلك جعل أهل الجنة هم أهل الإيمان،وأهل النار هم أهل الكفر،فيما شاء اللّه من الآيات، حتى صار ذلك معلوما علما شائعًا، متواترًا، اضطراريا من دين الرسول عند كل من بلغته رسالته. وربط السعادة مع إصلاح العمل به في مثل قوله: وأحبط الأعمال الصالحة بزواله، في مثل قوله: وذكر حال جميع الأمم المهتدية أنهم كذلك، في قوله: ولهذا أمر أهل العقل بتدبره، وأهل السمع بسمعه، فدعا فيه إلى التدبر، والتفكير، والتذكر، والعقل، والفهم، وإلى الاستماع، والإبصار، والإصغاء والتأثر بالوَجَل والبكاء وغير ذلك، وهذا باب واسع. ولما كان الإقرار بالصانع فطريا - كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة...) الحديث - فإن الفطرة تتضمن الإقرار باللّه، والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا اللّه، فإن الإله هو الذي يعرف ويعبد، وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع. وكان المقصود بالدعوة:وصول العباد إلى ما خلقوا له من عبادة ربهم،وحده لا شريك له،والعبادة أصلها عبادة القلب،المستتبع للجوارح،فإن القلب هو الملك،والأعضاء جنوده. وهو المضغة الذي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد،وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد. وإنما ذلك بعلمه،وحاله كان هذا الأصل الذي هو عبادة اللّه بمعرفته،ومحبته،هو أصل الدعوة في القرآن.فقال تعالى: والمتكلم يستحسن مثل هذا التأليف، ويستعظمه حيث قررت الربوبية، ثم الرسالة، ويظن أن هذا موافق لطريقته الكلامية في نظره في القضايا العقليات، أولا من تقرير الربوبية، ثم تقرير النبوة، ثم تلقى السمعيات من النبوة كما هي الطريقة المشهورة الكلامية للمعتزلة، والكرَّامية، والكُلاَّبية، والأشعرية. ومن سلك هذه الطريق في إثبات الصانع أولا بناء على حدوث العالم، ثم إثبات صفاته نفيا وإثباتا بالقياس العقلي ـ على ما بينهم فيه من اتفاق واختلاف: إما في المسائل، وإما في الدلائل ـ ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات، من المعاد، والثواب والعقاب، والخلافة والتفضيل، والإيمان بطريق مجمل. وإنما عمدة الكلام عندهم، ومعظمه: هو تلك القضايا التي يسمونها العقليات، وهي أصول دينهم. وقد بنوها علي مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، فلحقهم الذم من جهة ضعف المقاييس التي بنوا عليها، ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة. وهم قسمان: قسم بنوا على هذه العقليات القياسية الأصول العلمية، دون العملية؛ كالأشعرية. /وقسم بنوا عليها الأصول العلمية والعملية، كالمعتزلة،حتى إن هؤلاء يأخذون القدر المشترك في الأفعال بين اللّه وبين عباده، فما حسن من اللّه حسن من العبد، وما قبح من العبد قبح من اللّه، ولهذا سماهم الناس مشبهة الأفعال. ولا شك أن هؤلاء هم المتكلمة المذمومون عند السلف؛ لكثرة بنائهم الدين على القياس الفاسد الكلامي، وردهم لما جاء به الكتاب والسنة. والآخرون لما شاركوهم في بعض ذلك،لحقهم من الذم، والعيب، بقدر ما وافقوهم فيه، وهو موافقتهم في كثير من دلائلهم، التي يزعمون أنهم يقررون بها أصول الدين، والإيمان، وفي طائفة من مسائلهم التي يخالفون بها السنن والآثار، وما عليه أهل العقل والدين. وليس الغرض هنا تفصيل أحوالهم، فإنا قد كتبنا فيه أشياء في غير هذا الموضع. وإنما الغرض هنا أن طريقة القرآن جاءت في أصول الدين، وفروعه ـ في الدلائل والمسائل ـ بأكمل المناهج. والمتكلم يظن أنه بطريقته ـ التي انفرد بها- قد وافق طريقة القرآن، تارة في إثبات الربوبية، وتارة في إثبات الوحدانية، وتارة في إثبات النبوة، وتارة في إثبات المعاد، وهو مخطئ في كثير من ذلك، أو أكثره. مثل هذا الموضع. فإنه قد أخطأ المتكلم في ظنه أن طريقة القرآن توافق طريقته من وجوه. /منها: أن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته، التي يستلزم العلم بها العلم به، كاستلزام العلم بالشعاع، العلم بالشمس، من غير احتياج إلى قياس كلي يقال فيه: وكل محدَث فلابد له من محدِث، أو كل ممكن فلابد له من مرجح، أو كل حركة فلابد لها من علة غائية،أو فاعلية، ومن غير احتياج إلى أن يقال: سبب الافتقار إلى الصانع هل هو الحدوث فقط - كما تقوله المعتزلة - أو الإمكان - كما يقوله الجمهور - حتى يرتبون عليه أن الثاني حال باقية مفتقر إلى الصانع، على القول الثاني الصحيح دون الأول، فإنى قد بسطت هذا الموضع في غير هذا المكان،وبينت ما هو الحق، من أن نفس الذوات المخلوقة مفتقرة إلى الصانع، وأن فقرها وحاجتها إليه وصف ذاتي لهذه الموجودات المخلوقة، كما أن الغنى وصف ذاتي للرب الخالق، وأنه لا علة لهذا الافتقار غير نفس الماهية، وعين الإنيةِ، كما أنه لا علة لغناه غير نفس ذاته. فلك أن تقول: لا علة لفقرها، وغناه؛ إذ ليس لكل أمر علة، فكما لا علة لوجوده، وغناه، لا علة لعدمها إذا لم يشأ كونها، ولا لفقرها إليه إذا شاء كونها، وإن شئت أن تقول: علة هذا الفقر، وهذا الغني: نفس الذات، وعين الحقيقة. ويدل على ذلك أن الإنسان يعلم فقر نفسه، وحاجتها إلى خالقه، من غير أن يخطر بباله أنها ممكنة، والممكن الذي يقبل الوجود، والعدم، أو أنها محدثة والمحدث المسبوق بالعدم، بل قد يشك في قدمها، أو يعتقده، وهو يعلم فقرها، وحاجتها إلى بارئها، فلو لم يكن للفقر إلي الصانع علة إلا الإمكان أو /الحدوث، لما جاز العلم بالفقر إليه، حتى تعلم هذه العلة؛ إذ لا دليل عندهم على الحاجة إلى المؤثر إلا هذا. وحينئذ، فالعلم بنفس الذوات المفتقرة، والإنيات المضطرة توجب العلم بحاجتها إلى بارئها، وفقرها إليه، ولهذا سماها اللّه آيات. فهذان مقامان: أحدهما: أنها مفتقرة إلى المؤثر الموجب أو المحدث لهاتين العلتين. الثاني: أن كل مفتقر إلى المؤثر: الموجب، أو المحدث، فلابد له منه. وهو كلام صحيح في نفسه، لكن ليس الطريق مفتقرا إليه، وفيه طول وعقبات، تبعد المقصود. أمـا المقام الأول: فالعلم بفقرها غير مفتقر إلى دليل على ذلك من إمكان أو حدوث. وأما الثاني: فإن كونها مفتقرة إليه غير مفتقر إلى أن يستدل عليه بقياس كلي: من أن كل ممكن فلابد له من موجب، وكل محدث فلابد له من محدث؛ لأنها آية له يمتنع أن تكون دونه أو أن تكون غير آية له. والقلب بفطرته يعلم ذلك، وإن لم يخطر بقلبه وصف الإمكان والحدوث. والنكتة: أن وصف الإمكان، والحدوث، لا يجب أن يعتبره القلب لا في فقر ذواتها، ولا في أنها آية لباريها، وإن كانا وصفين ثابتين. وهما أيضا دليل صحيح، لكن أعيان الممكنات آية لعين خالقها الذي ليس كمثله شىء، بحيث لا يمكن أن يقع شركة فيه. /وأما قولنا كل ممكن فله مرجح، وكل محدث فله محدث، فإنما يدل على محدث، ومرجح، وهو وصف كلي يقبل الشركة، ولهذا القياس العقلي لا يدل على تعيين وإنما يدل على الكلي المطلق فلابد إذًا من التعيين. فالقياس دليل على وصفية مطلقة كلية. وأيضا، فإذا استدل على الصانع بوصف إمكانها، أو حدوثها، أو هما جميعا،لم يفتقر ذلك إلى قياس كلي، بأن يقال: وكل محدث فلابد له من محدث، أو كل ممكن فلابد له من مرجح، فضلا عن تقرير هاتين المقدمتين، بل علم القلب بافتقار هذا الممكن، وهذا المحدث، كعلمه بافتقار هذا الممكن، وهذا المحدث. فليس العلم بحكم المعينات مستفادًا من العلم الكلي الشامل لها، بل قد يكون العلم بحكم المعين في العقل قبل العلم بالحكم الكلي العام. كما أن العلم بأن العشرة ضعف الخمسة، ليس موقوفًا على العلم بأن كل عدد له نصفية، فهو ضعف نصفيه. وعلى هذا جاء قوله: /وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع، وذكرت دعوة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أنه جاء بالطريق الفطرية كقولهم: الوجه الثاني - في مفارقة الطريقة القرآنية الكلامية -: أن اللّه أمر بعبادته التي هي كمال النفوس، وصلاحها، وغايتها، ونهايتها، لم يقتصر على مجرد الإقرار به، كما هو غاية الطريقة الكلامية، فلا وافقوا لا في الوسائل، ولا في المقاصد، فإن الوسيلة القرآنية قد أشرنا إلى أنها فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، وتلك قياسية بعيدة، ولا توصل إلا إلى نوع المقصود، لا إلى عينه. وأما المقاصد، فالقرآن أخبر بالعلم به والعمل له، فجمع بين قوتي الإنسان العلمية، والعملية: الحسية، والحركية، الإرادية الإدراكية، والاعتمادية: القولية، والعملية، حيث قال: {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} فالعبادة لابد فيها من معرفته، والإنابة إليه، والتذلل له، والافتقار إليه، وهذا هو المقصود. والطريقة الكلامية، إنما تفيد مجرد الإقرار، والاعتراف بوجوده. /وهذا إذا حصل من غير عبادة وإنابة كان وبالا على صاحبه، وشقاء له، كما جاء في الحديث: (أشد الناس عذابًا يوم القيامة: عالم لم ينفعه اللّه بعلمه) كإبليس اللعين، فإنه معترف بربه، مُقِرٌّ بوجوده، لكن لما لم يعبده كان رأس الأشقياء، وكل من شقى فباتباعه له. كما قال: فلابد أن يملأ جهنم منه ومن أتباعه، مع أنه معترف بالرب، مقر بوجوده، وإنما أبى واستكبر عن الطاعة، والعبادة، والقوة العلمية مع العملية بمنزلة الفاعل، والغاية؛ ولهذا قيل:العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، والمراد بالعمل هنا: عمل القلب الذي هو إنابته إلى اللّه، وخشيته له، حتى يكون عابدًا له. فالرسل والكتب المنزلة أمرت بهذا وأوجبته، بل هو رأس الدعوة، ومقصودها، وأصلها، والطريقة السماعية العملية الصوتية المنحرفة توافق على المقصود العملي، لكن لا بعلم، بل بصوت مجرد أو بشعر مهيج، أو بوصف حب مجمل. فكما أن الطريقة الكلامية فيها علم ناقص بلا عمل، فهذه الطريقة فيها عمل ناقص بلا علم، والطريقة النبوية، القرآنية السنية الجماعية فيها العلم والعمل كاملين. ففاتحة دعوة الرسل: الأمر بالعبادة. قال تعالي: وكذلك قوله لمعاذ: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه) وقال نوح عليه السلام: وقال:
/وقـال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس اللّه روحه: فصــل
في تمهيد الأوائل، وتقرير الدلائل وذلك ببيان وتحرير أصل العلم والإيمان، كما قد كتبته أولا في بيان أصل العلم الإلهي. والذي أكتبه هنا: بيان الفرق بين المنهاج النبوي، الإيماني، العلمي، الصلاحي، والمنهاج الصابئ الفلسفي، وما تشعب عنه من المنهاج الكلامي والعبادي، المخالف لسبيل الأنبياء وسنتهم. وذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - دعوا الناس إلى عبادة اللّه أولا بالقلب واللسان، وعبادته متضمنة لمعرفته، وذكره. فأصل علمهم وعملهم هو العلم باللّه،والعمل للّه، وذلك فطري كما قد قررته في غير هذا الموضع، في موضعين أو ثلاثة، وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وأنه أشد رسوخًا في النفوس من مبدأ العلم الرياضي كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي،كقولنا: إن الجسم/ لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي، فما يتصور أن تعرض عنه فطرة. وبسط هذا له موضع غير هذا. وإنما الغرض هنا:أن اللّه - سبحانه - لما كان هو الأول الذي خلق الكائنات، والآخر الذي إليه تصير الحادثات،فهو الأصل الجامع،فالعلم به أصل كل علم وجامعه، وذكره أصل كل كلام وجامعه، والعمل له أصل كل عمل وجامعه. وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته. وإذا حصل لهم ذلك، فما سواه إما فضل نافع وإما فضول غير نافعة، وإما أمر مضر. ثم من العلم به، تتشعب أنواع العلوم، ومن عبادته وقصده، تتشعب وجوه المقاصد الصالحة، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك، قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي، والبرهان الوثيق، فلا يزال إما في زيادة العلم والإيمان، وإما في السلامة عن الجهل والكفر. وبهذا جاءت النصوص الإلهية، في أنه بالإيمان يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وضرب مثل المؤمن ـ وهو المقر بربه علمًا، وعملا ـ بالحي، والبصير، والسميع، والنور، والظل. وضرب مثل الكافر بالميت،والأعمى، والأصم، والظلمة، والحرور. وقالوا في الوسواس الخناس: هو الذي إذا ذكر اللّه خنس، وإذا غفل عن ذكر اللّه وسوس./ فتبين بذلك أن ذكر اللّه أصل لدفع الوسواس الذي هو مبدأ كل كفر وجهل، وفسق وظلم. وقال اللّه تعالى وفي الدعاء الذي علمه الإمام أحمد لبعض أصحابه: يا دليل الحيارى، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين. ولهذا كان عامة أهل السنة من أصحابنا وغيرهم على أن اللّه يسمى دليلا، ومنع ابن عقيل، وكثير من أصحاب الأشعري أن يسمي دليلا؛ لاعتقادهم أن الدليل هو ما يستدل به، وأن اللّه هو الدال، وهذا الذي قالوه بحسب ما غلب في عرف استعمالهم من الفرق بين الدال، والدليل. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن الدليل معدول عن الدال، وهو ما يؤكد فيه صفة الدلالة، فكل دليل دال، وليس كل دال دليلًا، وليس هو من أسماء الآلات التي يفعل بها، فإن فعيل ليس من أبنية الآلات كمِفْعَل، ومِفْعَال. وإنما سمي ما يستدل به من الأقوال والأفعال والأجسام أدلة باعتبار أنها تدل من يستدل بها، كما يخبر عنها بأنها تهدي، وترشد، وتعرف، وتعلم، وتقول، وتجيب، وتحكم، وتفتى، و تقص، وتشهد، وإن لم يكن لها في ذلك قصد وإرادة، ولا حس وإدراك كما هو مشهور في الكلام العربي وغيره. فما ذكروه من الفرق والتخصيص لا أصل له في كلام العرب. /الثاني: أنه لو كان الدليل من أسماء الآلات التي يفعل بها، فقد قال اللّه - تعالى - فيما روى عنه نبيه في عبده المحبوب:(فبي يسمع وبي يبصر، وبي يعقل، وبي ينطق، وبي يبطش، وبي يسعى) والمسلم يقول: استعنت باللّه واعتصمت به. وإذا كان ما سوى اللّه من الموجودات: الأعيان، والصفات،يستدل بها،سواء كانت حية أو لم تكن، بل ويستدل بالمعدوم، فلأن يستدل بالحي القيوم أولى وأحرى، على أن الذي في الدعاء المأثور: يا دليل الحياري دلني علي طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين، يقتضى أن تسميته دليلا باعتبار أنه دال لعباده، لا بمجرد أنه يستدل به، كما قد يستدل بما لا يقصد الدلالة والهداية، من الأعيان، والأقوال، والأفعال. ومن أسمائه الهادي، وقد جاء - أيضا - البرهان؛ ولهذا يذكر عن بعضهم أنه قال: عرفت الأشياء بربي،ولم أعرف ربي بالأشياء. وقال بعضهم:هو الدليل لي علي كل شىء، وإن كان كل شىء - لئلا يعذبني - عليه دليلا. وقيل لابن عباس: بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس، خارجًا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، عرفته بما عرف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه. فأخبر أن معرفة القلب حصلت بتعريف اللّه، وهو نور الإيمان، وأن وصف اللسان حصل بكلام اللّه، وهو نور القرآن. /وقال آخر للشيخ: قالوا ائتنا ببراهين فقلت لهم ** أنى يقوم على البرهان برهان؟ وقال الشيخ العارف للمتكلم: اليقين عندنا واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها، فأجابه بأنه ضروري. وقال الشيخ إسماعيل الكوراني للشيخ المتكلم: أنتم تقولون: إن اللّه يعرف بالدليل. ونحن نقول: إنه تعرف إلينا فعرفناه. يعني: أنه تعرف بنفسه، وبفضله. مع أن كلام هذين الشيخين فيه إشارة إلى الطريقة العبادية،وقد تكلمت عليها في غير هذا الموضع. فإذا كان الحق، الحي، القيوم، الذي هو رب كل شىء ومليكه،ومؤصل كل أصل، ومسبب كل سبب وعلة، هو الدليل والبرهان والأول والأصل، الذي يستدل به العبد، ويفزع إليه، ويرد جميع الأواخر إليه في العلم، كان ذلك سبيل الهدى وطريقه، كما أن الأعمال والحركات لما كان اللّه مصدرها، وإليه مرجعها كان المتوكل عليه في عمله، القائل أنه لا حول ولا قوة إلا باللّه مؤيدًا منصورًا. فجماع الأمر: أن اللّه هو الهادي وهو النصير، والعبد لما كان مخلوقًا مربوبا، مفطورًا، مصنوعا، عاد في علمه وعمله إلى خالقه، وفاطره، وربه، وصانعه، فصار ذلك ترتيبًا مطابقًا للحق، وتأليفًا موافقًا للحقيقة؛ إذ بناء الفرع على الأصل، وتقديم الأصل على الفرع هو الحق، فهذه الطريقة الصحيحة، الموافقة لفطرة اللّه وخلقته ولكتابه وسنته. وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلي صلاة الليل يقول:(اللّهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). وأما الطريقة الفلسفية الكلامية، فإنهم ابتدؤوا بنفوسهم، فجعلوها هي الأصل الذي يفرعون عليه، والأساس الذي يبنون عليه، فتكلموا في إدراكهم للعلم: أنه تارة يكون بالحس، وتارة بالعقل، وتارة بهما. وجعلوا العلوم الحسية، والبديهية ونحوها،هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها. ثم زعموا أنهم إنما يدركون بذلك الأمور القريبة منهم، من الأمور الطبيعية والحسابية، والأخلاق، فجعلوا هذه الثلاثة هي الأصول/ التي يبنون عليها سائر العلوم، ولهذا يمثلون ذلك في أصول العلم والكلام، بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الجسم لا يكون في مكانين، وأن الضدين ـ كالسواد والبياض ـ لا يجتمعان. فهذان الفنان متفق عليهما. وأما الأخلاق مثل: استحسان العلم، والعدل، والعفة، والشجاعة، فجمهور الفلاسفة والمتكلمين، يجعلونها من الأصول، لكنها من الأصول العامة، ومنهم من لا يجعلها من الأصول، بل يجعلها من الفروع، التي تفتقر إلي دليل. وهو قول غالب المتكلمة، المنتصرين للسنة في تأويل القدر، فكان الذي أصلوه واتفقوا عليه من المعارف، أمر قليل الفائدة، نزر الجدوى، وهو الأمور السفلية. ثم إذا صعدوا من هذه المقدمات، والدلائل إلى الأمور العلوية فلهم طريقان: أما المتكلمة المتبعون للنبوات، فغرضهم في الغالب إنما هو إثبات صانع العالم، والصفات التي بها تثبت النبوة على طريقهم، ثم إذا أثبتوا النبوة، تلقوا منها السمعيات وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، وفروع ذلك. وأما المتفلسفة، فهم في الغالب يتوسعون في الأمور الطبيعية ولوازمها، ثم يصعدون إلى الأفلاك وأحوالها. ثم المتألهون منهم يصعدون إلى واجب/ الوجود، وإلى العقول والنفوس. ومنهم من يثبت واجب الوجود ابتداء من جهة أن الوجود لابد فيه من واجب. وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل، والمقاصد. أما المقاصد فإن حاصلها - بعد التعب الكثير، والسلامة - خير قليل، فهي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل. ثم إنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط هنا. وأما الوسائل، فإن هذه الطرق كثيرة المقدمات، ينقطع السالكون فيها كثيرا قبل الوصول، ومقدماتها في - الغالب - إما مشتبهة يقع النزاع فيها، وإما خفية لا يدركها إلا الأذكياء. ولهذا لا يتفق منهم اثنان رئيسان على جميع مقدمات دليل إلا نادرًا، فكل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريقة في الاستدلال، تخالف طريقة الرئيس الآخر، بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريقة الآخر، ويعتقد كل منهما أن اللّه لا يعرف إلا بطريقته، وإن كان جمهور أهل الملة، بل عامة السلف يخالفونه فيها. مثال ذلك: أن غالب المتكلمين يعتقدون أن اللّه لا يعرف إلا بإثبات حدوث العالم، ثم الاستدلال بذلك على محدثه، ثم لهم في إثبات حدوثه طرق: فأكثرهم يستدلون بحدوث الأعراض، وهي صفات الأجسام. ثم القدرية من المعتزلة وغيرهم يعتقدون أن إثبات الصانع، والنبوة لا يمكن إلا بعد اعتقاد/ أن العبد هو المحدث لأفعاله، وإلا انتقض الدليل، ونحو ذلك من الأصول التي يخالفهم فيها جمهور المسلمين. وجمهور هؤلاء المتكلمين المستدلين على حدوث الأجسام بحدوث الحركات، يجعلون هذا هو الدليل على نفي ما دل عليه ظاهر السمعيات، من أن اللّه يجيء، وينزل ونحو ذلك. والمعتزلة وغيرهم يجعلون هذا هو الدليل على أن اللّه ليس له صفة، لا علم ولا قدرة، ولا عزة، ولا رحمة، ولا غير ذلك؛ لأن ذلك - بزعمهم - أعراض تدل على حدوث الموصوف. وأكثر المصنفين في الفلسفة - كابن سينا - يبتدئ بالمنطق، ثم الطبيعي والرياضي، أو لا يذكره. ثم ينتقل إلى ما عنده من الإلهي. وتجد المصنفين في الكلام يبتدؤون بمقدماته في الكلام: في النظر والعلم، والدليل - وهو من جنس المنطق - ثم ينتقلون إلى حدوث العالم، وإثبات محدثه. ومنهم من ينتقل إلى تقسيم المعلومات إلى: الموجود، والمعدوم، وينظر في الوجود وأقسامه، كما قد يفعله الفيلسوف في أول العلم الإلهي. فأما الأنبياء فأول دعوتهم: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه. /وقد اعترف الغزالي بأن طريق الصوفية هو الغاية؛ لأنهم يطهرون قلوبهم مما سوى اللّه، ويملؤونه بذكر اللّه، وهذا مبدأ دعوة الرسول، لكن الصوفي الذي ليس معه الأثارة النبوية مفصلة، يستفيد بها إيمانا مجملا، بخلاف صاحب الأثارة النبوية، فإن المعرفة عنده مفصلة. فتدبر طرق العلم والعمل، ليتميز لك طريق أهل السنة والإيمان من طريق أهل البدعة والنفاق، وطريق العلم والعرفان، من طريق الجهل والنكران. /وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - قدس اللّه روحه:
فصــل
قد تكلم طائفة من المتكلمة، والمتفلسفة، والمتصوفة في قيام الممكنات والمحدثات، بالواجب القديم ثم منهم من قد يخرج منها إلى مذهب الجهمية: الاتحادية، والحلولية، فيقول: إن ذلك الوجه هو وجود الكائنات، ووجه اللّه هو وجوده، فيكون وجوده وجود الكائنات، لا يميز بين الوجود الواجب، والوجود الممكن - كما هو قول ابن عربي، وابن سَبْعِين ونحوهما - وهو لازم لمن جعل وجوده وجودًا مطلقًا، لا يتميز بحقيقة تخصه سواء جعله وجودًا مطلقا بشرط الإطلاق - كما يزعم ابن سينا ونحوه من المتفلسفة - أو جعله وجودًا مطلقا لا بشرط- كما يقوله الاتحادية. /وهم يسلمون من القواعد العقلية - مما هو يعلم بضرورة العقل ما يوجب أن يكون الموجود - بشرط الإطلاق - إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان كالحيوان المطلق بشرط الإطلاق، والإنسان المطلق بشرط الإطلاق ونحو ذلك. وأن المطلق لا بشرط، ليس له حقيقة، غير الوجود العيني، والذهني، ليس في الأعيان الموجودة وجود مطلق، سوى أعيانها، كما ليس في هذا الإنسان، وهذا الإنسان إنسان مطلق وراء هذا الإنسان، فيكون وجود الرب على الأول ذهني وعلى الثاني نفس وجود المخلوقات. وقول الجهمية من المتقدمين، والمتأخرين، لا يخرج عن هذين القولين، وهو حقيقة التعطيل، لكن هم يثبتونه أيضا، فيجمعون بين النفي والإثبات، فيبقون في الحيرة؛ ولهذا يجعلون الحيرة منتهى المعرفة، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا مكذوبا عليه (أعلَمكم باللّه أشدكم حيرة) وأنه قال: (اللّهم زدني فيك تحيرًا) ويجمعون بين النقيضين ملتزمين لذلك.
وهذا قول القرامطة الباطنية، والاتحادية، وهو لازم لقول الفلاسفة والمعتزلة، وإن لم يصرح هؤلاء بالتزامه؛ بخلاف الباطنية، والاتحادية من المتصوفة. فإنهم يصرحون بالتزامه، ويذكرون ذلك عن الحلاج. والمقصود هنا أن يقال: أما كون وجود الخالق هو وجود المخلوق؛ فهذا كفر صريح باتفاق أهل الإيمان، وهو من أبطل الباطل في بديهة عقل كل إنسان، وإن كان منتحلوه يزعمون أنه غاية التحقيق والعرفان، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. / وأما كون المخلوق لا وجود له، إلا من الخالق ـ سبحانه ـ فهذا حق ـ ثم جميع الكائنات، هو خالقها، وربها، ومليكها، لا يكون شيء إلا بقدرته، ومشيئته وخلقه، هو خالق كل شيء سبحانه وتعالى. لكن الكلام هنا في تفسير الآية بهذا، فإن المعاني تنقسم إلى حق وباطل. فالباطل: لا يجوز أن يفسر به كلام الله. والحق: إن كان هو الذي دل عليه القرآن فسر به، وإلا فليس كل معنى صحيح يفسر به اللفظ لمجرد مناسبة، كالمناسبة التي بين الرؤيا والتعبير، وإن كانت خارجة عن وجوه دلالة اللفظ، كما تفعله القرامطة والباطنية؛ إذ دلالة اللفظ على المعنى سمعية. فلابد أن يكون اللفظ مستعملا في ذلك المعنى بحيث قد دل على المعنى به، لا يكتفي في ذلك بمجرد أن يصلح وضع اللفظ لذلك المعنى؛ إذ الألفاظ التي يصلح وضعها للمعاني ولم توضع لها لا يحصي عددها إلا الله. وهذا عند من يعتبر المناسبة بين اللفظ والمعنى كقول طائفة من أهل الكلام والبيان، وأما عند من لا يعتبر المناسبة فكل لفظ يصلح وضعه لكل معنى، لاسيما إذا علم أن اللفظ موضوع لمعنى هو مستعمل فيه، فحمله على غير ذلك لمجرد المناسبة كذب على الله. ثم إن كان مخالفًا لما علم من الشريعة، فهو دأب القرامطة، وإن لم يكن مخالفًا فهو حال كثير من جهال الوعاظ، والمتصوفة الذين يقولون بإشارات لا يدل اللفظ /عليها نصا ولا قياسا، وأما أرباب الإشارات الذين يثبتون ما دل اللفظ عليه، ويجعلون المعنى المشار إليه مفهوما من جهة القياس والاعتبار فحالهم كحال الفقهاء العالمين بالقياس، والاعتبار، وهذا حق إذا كان قياسا صحيحا لا فاسدا، واعتبارًا مستقيمًا، لا منحرفًا. وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية فنقول: تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عمن قاله من السلف، والمفسرين، من أن المعنى: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه. هو أحسن من ذلك التفسير المحدث، بل لا يجوز تفسير الآية بذلك التفسير المحدث، وهذا يبين بوجوه، بعضها يشير إلى الرجحان، وبعضها يشير إلى البطلان. الأول: أنه لم يقل: كل شيء هالك إلا من جهته، إلا من وجهه، ولكن قال: إلا وجهه. وهذا يقتضي أن ثم أشياء تهلك إلا وجهه. فإن أريد بوجهه وجوده، اقتضى أن كل ما سوي وجوده هالك، فيقتضي أن تكون المخلوقات هالكة. وليس الأمر كذلك. وهو أيضا على قول الاتحادية. فإنه عندهم ما ثم إلا وجود واحد، فلا يصح أن قال: كل ما سوي وجوده هالك؛ إذ ما ثم شيء يخبر عنه بأنه سوى وجوده، إذ أصل مذهبهم نفي السوى، والغير في نفس الأمر. وهذا يتم بالوجه الثاني: وهو أنه إذا قيل: المراد بالهالك: الممكن الذي لا وجود له من جهته، فيكون المعنى: كل شيء ليس وجوده من نفسه إلا هو. قيل: استعمال لفظ الهالك في الشيء الموجود المخلوق لأجل أن وجوده من ربه لا من نفسه، لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازا. /والقرآن قد فرق في اسم الهلاك بين شيء وشيء. فقال تعالى: فهذه الآيات تقتضي أن الهلاك استحالة، وفساد في الشيء الموجود، كما سنبينه، لا أنه يعني أنه ليس وجوده من نفسه؛ إذ جميع المخلوقات تشترك في هذا. الوجه الثالث: أن يقال: على هذا التقدير: يكون المعنى: أن كل ما سواه ممكن قابل للعدم، ليس وجوده من نفسه، وهذا المعنى ليس هو الذي يقصدونه، وإنما مقصودهم أن كل ما سواه فوجوده منه، وبين المعنيين فرق واضح، فإن الخبر عن الشيء بأنه ممكن قابل العدم، ليس وجوده من نفسه غير الخبر عنه، بأنه موجود وإن وجوده من الله. /الوجه الرابع: أن يقال: إذا كان المراد أن كل ما سواه ممكن، والضمير عائد إلى واجب الوجود ـ إلى الله الذي خلق الكائنات ـ كان هذا من باب إيضاح الواضح، فإنه من المعلوم أن كل ما سوى واجب الوجود فهو ممكن، وأن كل ما هو مخلوق له فهو ممكن. الوجه الخامس: أن يقال: اسم الوجه في الكتاب والسنة، إنما يذكر في سياق العبادة له والعمل له، والتوجه إليه، فهو مذكور في تقرير ألوهيته، وعبادته وطاعته، لا في تقرير وحدانية كونه خالقًا وربًا، وذلك المعنى هو العلة الغائية، وهذا هو العلة الفاعلىة، والعلة الغائية، هي المقصودة التي هي أعلى وأشرف بل هي علة فاعلىة للعلة الفاعلىة، ولهذا قدمت في مثل قوله: وَلَسَوْفَ يَرضي} وإذا كان كذلك، كان حمل اسم الوجه في هذه الآية على ما يدل عليه في سائر الآيات أولى من حمله على ما يدل عليه لفظ الوجه في شيء من الكتاب والسنة، بل هذا هو الواجب دون ذاك؛ لأن هذا استعمال للفظ فيما لم يرد به الكتاب، والكتاب قد ورد بغيره حيث ذكر. الوجه السادس: أن اسم الهلاك يراد به الفساد، وخروجه عما يقصد به/ويراد، وهذا مناسب لما لا يكون لله، فإنه فاسد لا ينتفع به في الحقيقة، بل هو خارج عما يجب قصده وإرادته. قال تعالى:
/ وقال ـ قدس الله روحه: فصـل:
ثم يقال: هذا ـ أيضًا ـ يقتضي والثاني: ممتنع؛ لأنه لو امتنع أن يكون الشيء مقدورًا ممكنًا لواحد، لامتنع أن يكون مقدورًا ممكنا لاثنين، فإنَّ حال الشيء في كونه مقدورًا ممكنًا، لا يختلف بتعدد القادر عليه وتوحده. فإذا امتنع أن يكون مفعولا مقدورًا لواحد، امتنع أن يكون مفعولا مقدورًا لاثنين. وإذا جاز أن يكون مفعولًا مقدورًا عليه لاثنين وهو ممكن، جاز أن يكون ـ أيضا ـ لواحد، وهذا بيِّن إذا كان الإمكان والامتناع لمعنى في الممكن ـ المفعول المقدور عليه ـ إذ صفات ذاته، لا تختلف في الحال. وكذلك إذا كان لمعنى في القادر، فإن القدرة القائمة باثنين، لا تمتنع/ أن تقوم بواحد، بل إمكان ذلك معلوم ببديهة العقل، بل من المعلوم ببديهة العقل أن الصفات بأسرها من القدرة وغيرها، كلما كان محلها متحدًا مجتمعًا، كان أكمل لها من أن يكون متعددًا متفرقا. ولهذا كان الاجتماع والاشتراك في الخلق، بأن يوجب لها من القوة والقدرة مالا يحصل لها إذا تفرقت وانفردت، وإن كانت إحداها باقية، بل الأشخاص والأعضاء وغيرها من الأجسام المتفرقة قد قام بكل منها قدرة، فإذا قدر اتحادها واجتماعها، كانت تلك القدرة أقوى وأكمل؛ لأنه حصل لها من الاتحاد والاجتماع بحسب الإمكان ما لم يكن حين الافتراق والتعداد. وهذا يبين أن القدرة القائمة باثنين ـ إذا قدر أن ذينك الاثنين كانا شيئًا واحدًا ـ تكون القدرة أكمل، فكيف لا تكون مساوية للقدرة القائمة بمحلين؟ وإذا كان من المعلوم أن المحلَّين المتباينين اللذين قام بهما قدرتان، إذا قدر أنهما محل واحد، وأن القدرتين قامتا به لم تنقص القدرة بذلك بل تزيد، علم أن المفعول الممكن المقدور عليه لقادرين منفصلين ـ إذا قدر أنهما بعينهما ـ قادر واحد قد قام به ما قام بهما، لم ينقص بذلك بل يزيد، فعلم أنه يمكن أن يكون كل منهما قابلا للقدرة على الاستقلال، وأن ذلك ممكن فيه. فتبين أنه من الممكن في المشتركين على المفعول الواحد أن يكون كل منهما قادرًا عليه، بل من الممكن أن يكونا شيئًا واحدًا قادرًا عليه، فتبين أن كلا منهما يمكن أن يكون أكمل مما هو عليه، وأن يكون بصفة أخرى. /إذا كان يمكن في كل منهما أن تتغير ذاته، وصفاته. ومعلوم أنه هو لا يمكن أن يكمل نفسه وحده، ويغيرها إذ التقدير: أنه عاجز عن الانفراد بمفعول منفصل عنه، فأن يكون عاجزًا عن تكميل نفسه وتغييرها أولى. وإذا كان هذا يمكن أن يتغير ويكمل، وهو لا يمكنه ذلك بنفسه لم يكن واجب الوجود بنفسه، بل يكون فيه إمكان وافتقار إلى غيره، والتقدير: أنه واجب الوجود بنفسه غير واجب الوجود بنفسه فيكون واجبا ممكنا. وهذا تناقض؛ إذ ما كان واجب الوجود بنفسه تكون نفسه كافية في حقيقة ذاته وصفاته، لا يكون في شيء من ذاته وصفاته مفتقرًا إلى غيره؛ إذ ذلك كله داخل في مسمى ذاته، بل ويجب ألا يكون مفتقرًا إلى غيره في شيء من أفعاله ومفعولاته. فإن أفعاله القائمة به داخلة في مسمى نفسه، وافتقاره إلى غيره في بعض المفعولات يوجب افتقاره في فعله، وصفته القائمة به؛ إذ مفعوله صدر عن ذلك، فلو كانت ذاته كاملة غنية لم تفتقر إلى غيره في فعلها، فافتقاره إلى غيره بوجه من الوجوه دليل عدم غناه، وعلى حاجـته إلى الغير، وذلك هو الإمكان المناقض لكونه واجب الوجود بنفسه. ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين، والغني عن الغير من خصائص رب العالمين كان الاستقلال بالفعل من خصائص/ رب العالمين، وكان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين، فليس في المخلوقات ما هو مستقل بشيء من المفعولات، وليس فيها ما هو وحده علة قائمة، وليس فيها ما هو مستغنيًا عن الشريك في شيء من المفعولات، بل لا يكون في العالم شيء موجود عن بعض الأسباب، إلا بمشاركة سبب آخر له. فيكون ـ وإن سمى علة ـ علة مقتضية سببية، لا علة تامة، ويكون كل منهما شرطا للآخر، كما أنه ليس في العالم سبب إلا وله مانع يمنعه من الفعل، فكل ما في المخلوق ـ مما يسمى علة أو سببا، أو قادرًا، أو فاعلا، أو مدبرًا ـ فله شريك هو له كالشرط وله معارض هو له مانع وضد، وقد قال سبحانه: فما من مخلوق إلا له شريك، وند. والرب ـ سبحانه ـ وحده هو الذي لا شريك له، ولا ند، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا، ولا ربا مطلقًا، ونحو ذلك؛ لأن ذلك يقتضي الاستقلال، والانفراد بالمفعول المصنوع، وليس ذلك إلا لله وحده؛ ولهذا ـ وإن نازع بعض الناس في كون العلة تكون ذات أوصاف، وادعى أن العلة لا تكون إلا ذات وصف واحد ـ فإن أكثر الناس خالفوا في ذلك، وقالوا: يجوز أن تكون ذات أوصاف، بل قيل: لا تكون في المخلوق/ علة ذات وصف واحد أو ليس في المخلوق ما يكون وحده علة، ولا يكون في المخلوق علة، إلا ما كان مركبًا من أمرين فصاعدًا. فليس في المخلوق واحد يصدر عنه شيء، فضلا عن أن يقال: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، بل لا يصدر من المخلوق شيء إلا عن اثنين فصاعدًا، وأما الواحد الذي يفعل وحده فليس إلا الله. فكما أن الوحدانية واجبة له لازمة له فالمشاركة واجبة للمخلوق لازمة له، والوحدانية مستلزمة للكمال، والكمال مستلزم لها، والاشتراك مستلزم للنقصان، والنقصان مستلزم له. وكذلك الوحدانية مستلزمة للغنى عن الغير، والقيام بنفسه، ووجوبه بنفسه، وهذه الأمور ـ من الغنى، والوجوب بالنفس والقيام بالنفس ـ مستلزمة للوحدانية، والمشاركة مستلزمة للفقر إلى الغير، والإمكان بالنفس، وعدم القيام بالنفس. وكذلك الفقر والإمكان وعدم القيام بالنفس مستلزم للاشتراك، وهذه وأمثالها من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها، وهي من دلائل إمكان المخلوقات المشهودات، وفقرها وأنها من بدئه، فهى من أدلة إثبات الصانع؛ لأن ما فيها من الافتراق والتعداد، والاشتراك يوجب افتقارها وإمكانها، والممكن المفتقر لابد له من واجب غني بنفسه، وإلا لم يوجد. ولو فرض تسلسل الممكنات المفتقرات فهي بمجموعها ممكنة، والممكن قد علم /بالاضطرار أنه يفتقر في وجوده إلى غيره، فكل ما يعلم أنه ممكن فقير، فإنه يعلم أنه فقير أيضا في وجوده إلى غيره، فلابد من غني بنفسه واجب الوجود بنفسه، وإلا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال. وهذه المعاني تدل على توحيد الربوبية، وعلى توحيد الإلهية، وهو التوحيد الواجب الكامل، الذي جاء به القرآن، لوجوه: قد ذكرنا منها ما ذكرنا في غير هذا الموضع، مثل أن المتحركات لابد لها من حركة إرادية، ولابد للإرادة من مراد لنفسه، وذلك هو الإله، والمخلوق يمتنع أن يكون مرادًا لنفسه، كما يمتنع أن يكون فاعلا لنفسه، فإذا امتنع أن يكون فاعلان بأنفسهما امتنع أن يكون مرادان بأنفسهما. وأيضًا، فالإله الذي هو المراد لنفسه ـ إن لم يكن ربا ـ امتنع أن يكون معبودًا لنفسه، ومن لا يكون ربا خالقا لا يكون مدعوا مطلوبا منه، مرادًا لغيره، فلأن لا يكون معبودًا مرادًا لنفسه من باب الأولى فإثبات الإلهية يوجب إثبات الربوبية، ونفي الربوبية يوجب نفي الإلهية؛ إذ الإلهية هي الغاية، وهي مستلزمة للبداية كاستلزام العلة الغائية للفاعلىة. وكل واحد من وحدانية الربوبية والإلهية ـ وإن كان معلوما بالفطرة الضرورية البديهية، وبالشرعية النبوية الإلهية ـ فهو ـ أيضا ـ معلوم بالأمثال الضرورية، التي هي المقاييس العقلية. لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية، / وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم، وإنما نازعوا في بعض تفاصيله، كنزاع المجوس والثنوية والطبيعية والقدرية، وأمثالهم من ضلال المتفلسفة، والمعتزلة، ومن يدخل فيهم، وأما توحيد الإلهية فهو الشرك العام الغالب، الذي دخل من أقرَّ أنه لا خالق إلا الله، ولا رب غيره من أصناف المشركين، كما قال تعالى:
|